السبت، 23 أبريل 2011

التربية الجنسية

من الموضوعات المستحدثة بسبب ضغط الإعلام ولأهمية الموضوع فإننا نحتاج إلى مراجعة بعض قناعتنا لتعزيزها ثم إعادة نشرها مرة أخرى...تحياتي لكم


التربية الجنسية

د. عدنان حسن باحارث 

      الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ، وبعد : فإن مصطلح التربية الجنسية، وأساليب تطبيقاته يكتنفه كثير من الغموض والتنازع عند الباحثين التربويين، والمنشغلين بنواحي الثقافة الجنسية؛ حيث يحتدم الصراع بينهم حول: حدود معارفها العلمية، وأساليب إيصالها، والسن المناسبة لعرضها، والجهة المسؤولة عن تقديمها، مما جعل من ميدان التربية الجنسية ساحة خصبة لنشر الأهواء الفكرية، والشذوذات السلوكية، التي تُذكيها النظريات الجنسية، والأبحاث الميدانية، والثورات العاطفية العارمة، التي أفقدت هذا المجال سريَّته وستره.

وهذا التَّشتُّت الفكري والسلوكي يرجع بطبيعة الحال إلى فقدان الثوابت العقدية والسلوكية التي يتمتع بها منهج التربية الإسلامية، حيث جعل من التربية الجنسية ميداناً ضرورياً للعبادة، فربط بينها وبين الشعائر التعبدية وبعض قضايا الأسرة برباط لا ينفصم، وألزم المربين من كل طبقات المجتمع بإشاعة المعرفة بها، وإذاعتها كأوسع ما يكون، حتى إن الأمِّي في المجتمع المسلم لا تخفى عليه فروضها، وكثير من سننها ومستحباتها، في الوقت الذي قد يجهل كثير من الأوروبيين - رغم الانفلات الخلقي- العديد من معارفهم الجنسية، فباب الطهارة في كتب الفقه الإسلامي لا يعدو أن يكون باباً في التربية الجنسية - إذا صحَّ التعبير - فالاستنجاء، والاستجمار، وما يتعلق بقضاء الحاجة، والحيض والنفاس، والغسل من الجنابة، والوضوء، وأبواب ستر العورة، والعشرة الزوجية، وآداب الاستئذان وغيرها كثير، كل ذلك لا يعدو أن يكون موضوعات التربية الجنسية في الإسلام.


وهذه الموضوعات بكل تفصيلاتها قائمة في حياتنا التعليمية، سواء في مدارسنا، أو جامعاتنا، أو حلقات العلم والمحاضرات في المساجد، أو المنتديات الثقافية.


ومن هنا فإن إثارة هذا الموضوع من هذه الوجهة هو تحصيل حاصل في حياتنا الثقافية، وإن كان ولا بد فبمزيد توسع في أبواب الفقه والحديث التي تتحدث عن هذه الموضوعات الخاصة ليس أكثر من ذلك.


أما إذا كان المقصود من التربية الجنسية هو عرض صراعات الثقافة الجنسية عند الغرب، ونظرياتهم المنحرفة والمشوشة، وما يتعلق بها من مفاهيم التحرر، وكشف العورات، وما أمر الله تعالى بستره من أحوال العلاقات الزوجية الخاصة، وحقوق المراهقين في الممارسة الجنسية خارج الزواج، إضافة إلى الصور الفاضحة الممنوعة، وغيرها من القضايا التي كانت ولا تزال موضع صراع عند الغرب أنفسهم فهذا ممنوع شرعاً، ولا علاقة له بالتربية الجنسية في الإسلام.


وأما الحديث عن المنهج والمعلم، فإن التربية الجنسية لا تتعلق بمنهج معين، أو معلم معين، بل هي مواد شرعية فقهية وحديثية يقوم بها المنهج المدرسي ككل في مواده وأنشطته العلمية والثقافية والاجتماعية المختلفة، وتتولاه وسائل الإعلام من خلال الدروس العلمية الشرعية، ويتولاه إمام المسجد وواعظ الحي، فالكل يشارك في هذا البناء الثقافي الإسلامي، وأما ربط التربية الجنسية - بصورة خاصة - بمنهج محدد معين، تُجمع فيه هذه المسائل الجنسية فهذا من شأنه إثارة موضوعات لا تُحمد عقباها، وكذلك تدريس هذه القضايا الجنسية من خلال مادة الأحياء هو الآخر لا يصلح؛ فإن كثيراً من إناث الحيوانات تقتل ذكورها بعد الممارسة الجنسية، بل تقتل بعض الحشرات والحيوانات صغارها، وهذا لا يناسب الطبيعة الإنسانية، ولا يصلح مثالاً لها.


 والمراجع لواقع الأمة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن التربية الجنسية كانت جزءاً من حياة الإنسان في ذلك الوقت، لا تختص بدرس معين، ولا وقت معين، يأتي الرجل يسأل في المسألة الجنسية، وتأتي المرأة تسأل دون أن يمنعها من ذلك حياء أو خجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يجيب، وإذا لم تكن هذه هي التربية الجنسية، فلا أدري ما هي التربية الجنسية ؟

          وأما منهج الإسلام من التربية الجنسية ، فالمقصود منه: هو تبصير الناشئ بطبيعة وخصائص هويته الجنسية، ودوره في نظام التزاوج والتكاثر البشري، وما يتعلق بهذين الجانبين من أحكام العبادات والمعاملات، ومن ثمَّ ربط كل ذلك بشطري الإسلام العقدي والسلوكي، بحيث يتهذب الناشئ بآداب التربية الجنسية عبر مراحل طفولته المختلفة، ومروراً بمراحل : المراهقة والبلوغ والشباب، فيعطى في كل مرحلة ما يناسبها من العلوم والمعارف الجنسية : الواجبة والمستحبة وتطبيقاتها السلوكية، بالأساليب الصحيحة المشروعة -المباشرة منها وغير المباشرة- الخالية من الفحش وقبيح القول، حيث يتولى المجتمع ككل هذه المهمة التربوية، من خلال جميع مؤسساته المختلفة، ضمن معارفها ومناشطها المتنوعة ، دون تخصيصها بمادة أو منهج معين، فلا يبقى للجهل بهذه المسائل الخاصة باب يدخل عن طريقه المغْرضون أو الجهلة للإفساد الخلقي بحجة التثقيف الجنسي.

ولا شك أن الخجل والحرج يكتنفان الحديث عن مثل هذه القضايا الخاصة، فيستحوذ الحياء على المفتي والمستفتي، الكبار والصغار، خاصة الإناث من فئات المجتمع، إلا أن كسر باب الخجل في مثل هذه الموضوعات الشرعية أمر مهم، فهذه أم سليم رضي الله عنها  لما أرادت أن تواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم? بسؤالها المحرج عن الاحتلام قالت: "يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق…" ، ولما أكثر عليها النساء النقد في سؤالها هذا قالت لهن: "والله ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حلٍّ أنا أو في حرام"، ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حكم العزل، دعا جارية له، فقال:" أخبريهم، فكأنها استحيت، فقال: هو ذلك "، يعني أنه كان يفعله معها. فلم يكن الحياء - رغم استحواذه عليهم- ليمنعهم من تبليغ الحق، وتعليم الناس ما يجب عليهم، حتى ولو صدر السؤال المُحرج عن الصغير: فإن إعطاءه المعلومات الصحيحة، بالقدر الذي يناسب مداركه ولا يضره: أمر مطلوب، ونهج تربوي صحيح، فهذه عائشة رضي الله عنها يُواجهها ابن أختها من الرضاعة أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، وهو صبي لم يبلغ الحلم بسؤاله عمَّا يُوجب الغسل؟ فلم تجد بُداً من إجابته، حتى ردَّت عليه، فقالت: "أتدري ما مَثلُك يا أبا سلمة؟ مثلُ الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها، إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل"، وربما أخبرت رضي الله عنها بصراحة تامة عن أدقِّ تفصيلات حياتها الجنسية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فيما تحتاج الأمة لمعرفته.


ورغم هذا الوضوح التربوي المنضبط في تعامل منهج الإسلام مع هذه القضايا العلمية الخاصة: فإن الواقع الاجتماعي المعاصر يشهد تخلُّفاً كبيراً في المعارف الجنسية الضرورية لدى الشباب والفتيات ، خاصة فيما يتعلق بأحكام الغسل ، والحيض، والعلاقات الزوجية، حتى إنهم اليوم أفقر ما كانوا إلى هذه المعارف وتطبيقاتها السلوكية من أي وقت مضى؛ مما أدَّى إلى ظهور مضاعفات نفسية واجتماعية كبيرة، تهدد الأسرة والمجتمع ككل .


إن من الضروري تطهير المعرفة العلمية والثقافية المقدمة للشباب من أسباب الفتنة الجنسية ؛ بحيث تنسجم المعرفة التربوية بكل فعالياتها الفكرية والسلوكية مع منهج التربية الإسلامية، فلا يجد المربون في مناهج التربية ما يخالف مبادئ الإسلام، أو يتعارض مع أسلوبه في معالجة مشكلات الشباب الأخلاقية والسلوكية.


   إلا أن الناظر في مجال التربية وعلم النفس يجده ميداناً رحباً عند كثير من التربويين؛ يُؤصِّلون من خلاله أخطاء الشباب الجنسية والعاطفية، تحت ستار الدراسات النفسية والتربوية، كما يجد في مجال الثقافة والفكر من يُؤيِّد هذه الاتجاهات الجنسية السقيمة، ويدعمها بالحجة العقلية والمنطقية، ثم يجد بعد هذا في مجال التشريع الإسلامي من يتبرع - باسم الدين- لأسلمة هذه الأفكار والسلوكيات الجنسية المنحرفة، ويضْفي عليها ثوب الشرعية الدينية، ويُهوِّن على نفوس الشباب وضمائرهم أمر ارتكابها، إضافة إلى وجود قوى عالمية، ذات ثقل كبير تقف وراء عولمة بعض المصطلحات الجديدة، ضمن مفاهيم تتناسب معها، مثل: العائلة، الإجهاض، الحرية، الثقافة الجنسية.

  إن دافع الشهوة الجنسية كأقدم الدوافع الشهوية، وأشدها مضاءً، وأكثرها تمكُّناً في عمق الكيان الإنساني؛ ليصبَّ عُصارة الجهد وغاية المُراد في غريزة حب البقاء - كبرى غرائز الأحياء - بشقَّيها العظيمين العميقين: حفظ الذات، وحفظ النوع، بمعنى: أن النشاط الجنسي بالنسبة للإنسان، ولسائر الأجناس الحيوانية مسألة بقاء أو فناء، فإذا توقف، أو أعيق: فإنه يهدد النوع بالفناء؛ لذا ارتبطت الممارسة الجنسية بالقوة والعنف، كدرعين واقيين للنشاط الجنسي من التوقف  أو التعثر، فإذا قصَّر الإنسان في إشباعها: انقاد إليها منبعثاً لها لقوة ما تحمله من العنف في ذاتها لبقاء النسل، واستمرار النوع، كحال الطعام ؛ فإن الله لم يجعل قوام الإنسان منه إلى اختياره، وإنما جعله غريزة تلح بقوة إلى الإشباع لحفظ الذات، والغريزة - كما هو معلوم - سلوك فطري غير متكلَّف، يصدر عن الشخص تلقائياً بلا تعلُّم، بغرض الاستمرار وعدم الانقطاع، ومن هنا يظهر أن الهدف الأسمى من الغريزة الجنسية وكل ما يلحق بها: هو الولد، كوحدة رمزية ضرورية لدعم غريزة " البقاء "، التي أرادها المولى عز وجل لعمارة الأرض بالتوارث فيها جيلاً بعد جيل ، وبناء على هذا الفهم قام نظام التزاوج بين ذكر وأنثى على أساس التواصل الجنسي كضرورة إنسانية ملحة لاقتناص الولد، ضمن حدود الأسرة العضوية، باعتبارها لبنة في بناء الكيان الاجتماعي الكبير.

ومن هنا يُلحظ أن ما تتبنَّاه بعض الفئات والأمم: من استقذار مبدأ تركيب الشهوة الجنسية كدافع أصيل مُسْتحسن: يخالف مبدأ الوجود الإنساني كحقيقة تفتقر إلى الشهوة الباعثة؛ إذ لا يمكن أن تتم عملية الإخصاب البشري بين زوجين بغير دافع الشهوة الملحة، التي تقتحم بطابع عنْفها، وقوة اندفاعها، وما أُضْفيَ عليها من مشاعر المتعة واللذة: حواجز النفس الإنسانية، وحدود الذات الفردية؛ لتبلغ أقصى مظاهر التداخل الإنساني في أكمل صوره الممكنة بين شخصين، كما قال العليم الخبير: { … هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ … } [البقرة:187]، ولهذا جعلت الشريعة الخاتمة هذه العلاقة الشهوانية الضرورية في غاية الطُّهر؛ حتى لا يقع في النفس استحقار دافعها، حيث باركتها بذكر الله تعالى، ورتَّبت عليها الأجر والثواب، وجعلتها سنة خير الخلق، بل إن عصارتها الشهوية المتدفِّقة من الزوجين، والتي ينعقد منها الولد: طاهرة من النجاسة على الراجح، ومُسْتثناةٌ من كل ما يخرج من السبيلين، وما كان لله الكريم أن يخلق الإنسان من عصارة نجسة، فعُلِمَ بالضرورة: أن الشهوة الجنسية أصلها ليس من حظِّ الشيطان في شيء، وأنها من مستحبات الشريعة، ومطلوبات الدين.


إن هذا الفهم الشرعي للتربية الجنسية يعاني أزمة في الثقافة الإنسانية المعاصرة ، وإن أخطر ما مُنيت به الإنسانية في القرن العشرين الميلادي: أفكار، وآراء الطبيب اليهودي " سيجمند فرويد "، وما صاحبها من مظاهر تحرير المرأة، وتوفير عقاقير منع الحمل، والتطور التقني الحديث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث انتقل عن طريقه كثير من السلوكيات الجنسية المنحرفة من كونها شذوذات فردية ضالة إلى ممارسات جماعية منظمة، ومن كونها انحرافات سلوكية خاطئة إلى كونها مبادئ فكرية ومذهبية، حتى إن ضخامة تأثيره في القضايا النفسية والجنسية لا يبعد كثيراً عن حجم وضخامة تأثير" أرسطو" في قضايا الفلسفة، حتى لا يكاد يخلو من ذكر آرائه كتاب نفسي أو جنسي، فقد خرج على الإنسانية المعاصرة - مؤيَّداً بقوى الشر -  بتفسيرات جنسية محضة، محورها البحث عن اللذة في مقابل معْضلة الكبت، حلل من خلالها سلوك الإنسان العام عبر مراحل عمره المختلفة، فأقامها على عقد طفولية أسْطورية، من نَشَاذ العقل الإنساني، مما تمجُّه العقول السوية، والفطر السليمة، فلاقى بسبب جراءته من عنت معارضيه، وأليم نقدهم، بقدر ما لاقى من دعم مؤيديه، وتشجيعهم لآرائه، وحتى الساحة العربية لم تخل من مؤيد له وناقد، فقد انقسم النفسيون العرب في شأنه إلى قسمين.


وعلى الرغم من اعتقاد بعضهم بأفول أفكاره، وضعف تأثيرها في ميادين علم النفس المعاصر، فإن بعض الدراسات الميدانية تشير إلى أن " فرويد" باعتباره شخصية مؤثرة في علم النفس: لا يزال اسمه عالقاً في أذهان الناس، ويُعتبر في نظرهم الشخصية الأولى في قائمة المختصين النفسيين.


إن من الضروري - ضمن الحياة الإسلامية المعاصرة - حماية الناشئة من الضلال الجنسي، من خلال تعديل المفاهيم الشاذة في أذهانهم، وإحلال المفاهيم الصحيحة محلها؛ لتبقى القضية الجنسية ضمن إطارها المحدود، تُعطي عطاءها الإيجابي باعتبارها جانباً من جوانب شخصية الإنسان، دون أن تتعدَّى حدودها لتصبح محور السلوك الإنساني بأبعاده المختلفة.


                                                   د.عدنان حسن باحارث
                                                   متخصص تربوي في شؤون الأسرة



0 التعليقات :

إرسال تعليق